أولى ثانوي – شرح نص الكراسي المقلوبة – محور الاقصوصة
شرح نص الكراسي المقلوبة محور الاقصوصة للكاتب رضوان الكوني تقديم النص والشرح والتحليل نص الكراسي المقلوبة من كتاب النصوص آفاق أدبية للسنة الاولى من التعليم الثانوي تعليم تونس
نص الكراسي المقلوبة :
في شارع طويل من شوارع المدينة تصطخب فيه الحركة الكثيرة، كانَ النَّاسُ أَخلاطا مختلفي الأزياء والوجوه مختلفي الأهداف يجمع بينهم طريق واحد يوصلهم إلى غاياتهم. هذا الطريق هو هذا الشارع الطويل في المدينة، وكنتُ أنا أجرجر رجلين مثقلتين تحملان جسما منهوكا، مكدودا، ضعيف الحركة، ورأساً ثقيلاً، مهموما أعياه التفكير وأتعبه الشهاد. 5 عبرت أحد الأنهج الفرعية وكان يُؤدي إلى بطحاء، بدأ رأسي يثقل أكثر ويتمايل عَلَى كَتَفَيَّ، بدأت أمل السير، ولكني مللت المكوث في المنزل كذلك. وكنتُ لا أستطيع فتح عيني إلا بصعوبة، دخلت البطحاء وقد ضربت الشمس كل الجدران أمامي وانصبت أشعتها على كل شيء، فارتد بصري إليَّ، فقد وقفت دونه هذه الحوائط البيضاء المشققة ولم تَدَعَهُ ينفذ إلى ما وراءها ، قصدت مقهى كان في ركن هذه البطحاء. كانت الكراسي بهذا المقهى مقلوبة، تعجبت لأمرها ، ثم أقعدت كرسيا وجلست في طاولة، وطلبت قهوة ، لابد أن يكون للريح دور كبير في قلبها .
اليومُ أَغْبَرُ، تَلَبَّدَتِ السَّماءُ وهَبَتْ في الجو عاصفة هوجاء ورياح تصفر صفيرا قويًّا حزينا فتمايلت الأغصانُ وناحت فقوي نفخُ الريح وهاج الجو وماج واقتلعت الأرياح جذوع الأشجار الصغيرة والنباتات الضعيفة وتساقط لباس الجدران المتداعية، وطارت الأوراق، وفرت الجرائد وتشوشت شُعور النساء واهتزت فساتينهُنَّ، وتساقطت الدموع من الأعين لشدة النفخ البارد وتمايل الشيوخ والصغار بالرغم عنهم، وتداعى الناس هنا وهناك، وسقطت المقاعد، وانقلبت الكراسي، وبقي الكُلَّ في عُري، وبدا من كُلِّ ناحية الجانب الذي لا نُريد له الظهور.
ورشفت من القهوة جرعة، ثم دخل بعض النَّاسِ إِلى المقهى، وقلَبُوا بعض الكراسي، وجلسوا، كانت كل الكراسي مقلوبة ما عدا مقعدي والمقاعد التي عمرت أخيراً ببعض الزوار، لا، ليس هذه فقط ، إذ أن كرسيا
آخر خلفَ خَشَبَةِ المشرب لم يكن مقلوبًا ، كَانَ هَذَا الكرسي على مصطبة وأمامه درج في خشبة المشرب، ولم يكن الكرسي عامراً دائما ولا خاليا أبداً ، فقد كان هنالك رجُلٌ يذهب ويجيء داخل المقهى، يجلس
عليه حينا ويتركه آخر، ربما يكون صاحب المقهى. وسرحت نظري خارج المقهى، في البطحاء . قابلني في الناحية المواجهة لي في البطحاء مبنى كبير ، يتقدمه سلم من رخام، لكان هذا المبنى مسرح أو هو قصر لأحد كبار النَّاس، في أعلى هذا السلم مساحةً رخامية جميلة ، فرش وسطها ببساط ثمين فيما يبدو، عليه كرسي جلس فوقه صبى يرتدي ملابس فاخرة، وفي المدرج تناثرت الكراسي دون ترتيب، يشغلها صبيان كثيرون. والذي لاحظته جيدًا هو أن ليس هناك كرسي في أعلى المدرج ما عدا كرسي الصبي ذي الملابس الفاخرة. وقد كان يبدو على هؤلاء الفتيان جميعًا أنهم يمارسون لعبة الحكم. وتحت المدارج، على الرصيف، وقف صبيان آخرون كثيرون ينظرون إلى المقتعدين كراسي على درجات السلم.
قال أحد الصبيان من المدرج للطفل صاحب أفخر الملابس .
بماذا تجيزني لو قلت لك قولاً حَسَنًا ؟
قال الصبي العالي :
- أجيزك بما تحلم به .
- أو تَعْرِفُ مَا أحلم به ؟
- إذن سأقُولُ لَكَ قولاً حَسَنًا.
هات
ووقف الصبي على كرسيه وقَالَ :
يا أعظم ملك في الدنيا . فقال الصبي الممدوح : - أحسنت. سأجازيك الآن : اصعد بكرسيك درجتين، وفعل الصبي، وكان فرحا جدا بهذا الفوز.
. وقام صبي آخر من وسط المدرج، وصاح مخاطبا الصبي العالي : * وأنا ، هل تجازيني بشيء عندما أقول لك قولاً جميلاً ؟
قال الصبي العالي : - نعم .
*إذن سأقول : يا مولاي العظيم، دامت نعمتك علينا.
. فقال له الممدوح : - أحسنت ، تقدم بكرسيك درجتين .
وتمادى كلُّ الصبيان في إضفاء النعوت الجميلة على الصبي الحاكم إلى أن تَقدَّمُوا جميعًا بكرسيهم درجات
وأصبح أكثرهم في الدرجة الأخيرة، لا يفصلهم عن الصبي الحاكم شيء سوى درجة. وأحب الأطفال الواقفون تحت المدرج الا يبقوا متفرجين، أرادوا مشاركة الآخرين فصاحوا مخاطبين أعلى
المدرج.
ونحن يا سيدنا ، هل تجازينا بشيء عندما نقول لك قولاً حسنًا ؟
فأجابهم :
- أنتم ليس لكُم الحق في المُشاركة لأنكم واقفُونَ . عندما تجلسون على الكراسي شارِكُوا .
وصاحوا :
*وأين الكراسي ؟! - وأين الكراسي ؟!
- الآن ، ليس هنالك شُعُور.
فاستوضحوا :
يعني، قد يحدثُ شُعُورٌ ؟..
أردف : - ربما
فصمتوا صابرين منتظرين .
ووقف صبي من الصف الأمامي فوق كرسيه، وقال مخاطبا الصبي السيد : - يا سيدي، لو قلت لك الآن شيئًا جميلاً جدا جدا، لم تفكر فيه أبدا، ولم تحلم به أبدا، ولم يقلهُ لكَ أحد
أبدا، فيماذَا تُجازيني ؟
أجاب الصبي السيد : - سأجازيك بشيء لم تُفكر فيه أبدا ، ولم تحلم بوقوعه أبدا ولم تعرفه إلى الآن.
فقال الصبي : - إذن أقولُ ؟
قل
وأراد أن ينطق لكنه سمع حركة قوية فانتبه إليها، وأرجا النطق، فرأى كُل الصبيان الموجودين في الصف الأول قد وقَفُوا على كراسيهم وصاحوا مخاطبين الصبي الأعلى : - نرجوك ، نحن أيضا نريد أن نقول شيئًا لم يخطر ببالك أبدا . ولم يقله لك أحد قبلنا .
فقام الصبي الأعلى من كرسيه، وخطا نحوهم إلى أن وقف في الوسط أمامهم وقَالَ : * لكن صاحبكُم هَذَا هُوَ الذي طلب الكلمة قبلكم فلنسمعه أولاً ثم تعطيكم الكلمة بعده. فصاحوا جميعا :
لا ، لا تريده أن يتكلم قبلَنَا ، سيفُورُ إِنْ تَكلَّم قَبْلَنَا.
- لماذا ؟
لأنه سرق منا الكلمة.
: فاعترض الصبي الأول :
*أنا ؟! كيف أسرق منكم كلمتكم وأنا كلمتي لا يعرفها أحد ؟
فقال له الصبي الأعلى : - إذن دعهم يقولوا قبلك .
- لا لا يا سيدي.
: لماذا ؟
لأنهم سيقُولُونَ كَلِمَتِي، فَقَدْ سَرقُوهَا مِنْ قَلْبِي .
وهناك فكر الصبي الأعلى قليلاً ثم قَالَ لَهُم : - وجدت حلا يُرضى الجميع . ساعد إلى ثلاثة والذي ينطق الأول بعد كلمة ثلاثة سيفوز بالجائزة .
فقالوا : اتفقنا
وبدأ الصبي السيدُ يَعُدُّ وهو واقف أمامهم. وقبل أن يتم كلمة «ثلاثة». انطلق الجميع في كلمة واحدة. لم يسبق أحدهم الآخر، ولم يتأخر صوت عن صوت آخر، وقالوا : - يا أعظم أعظم ملك في الدنيا .
وسكتوا . وبقوا ينتظرون الجائزة، فنظر إليهم الطفل السيد، وتثبت في وجوههم، ثم وقف مستقيما ، وقَالَ: العلكم تترقبونَ الجائزة التي لم تظفَرُوا بها سابقا ؟
قالوا جميعا : - نعم، يا أكرم أكرم إنسان .
قال : - طيب ، إذن .. خُذُوا .
وأشرع يديه نحوهم ثم دفعهم بكلتا ذراعيه إلى الوراء، فتهاووا وتساقطُوا وانقلبت كراسيهم تاركةً أرجلها إلى السَّمَاء، ثم رجع الصبي إلى مكانه في أعلى المدرج، وجلس على كرسيه المنتصب فوق البساط الفاخر،
وهو يتمتم :
يريدون الجائزة، ماذا يريدون أكثر ؟ رفعتهم درجات ودرجات إلى أن بلغوا حذوي، والآن يُريدون الجائزة التي لا تكون سوى مقعدي هذا، يتخاصمون من أجله، وأنا ؟! هل فكرُوا فِي ؟ أين أَذهَبُ ؟». ثم نظر أمامه، فرأى الصبيان الآخرين الواقفين ينظرون إلى كل ما حدث، فأشار إليهم : أ : أَن تَقدَمُوا، فَتَقَدَّمُوا ،
فقال :
- لقد حَدَثَ شُعُورٌ ، خذوا أماكنكُم، خذوا أما كنكُم، وانفضوا هذه الكراسي المقلوبة وانصبوها على أرجلها . لكنهم لم يجلسوا ، ولم ينصبوا الكراسي المقلوبة بل صعدو المدرج، إلى أن وصلوا أمامه، فصاح فيهم : ويلَكُمْ، أين تقصدون ، طلبت منكم أن تجلسوا لا أَنْ تَصعَدُوا إِليَّ. فلم يردوا عليه، وبحركة خفيفة رشيقة جذبُوا البساط إلى أسفل المدرج فتدحرج الصبي السيد متهشما على الرحام، وانقلب كرسيه مع المقاعد الأخرى، ورجع الصبيان الذين دحرجوه إلى أسفل في هدوء، وهم
يقُولُون : - نحن لا نشارك في لعبة نعرف نهايتها
وأتم الجماعة الذين جلسوا بعدي شربهم فخرجوا، ودخل بعدهُم آخرون فاقتعدوا أماكنهم، وبدا النَّاسُ في المقهى يخرجون ويدخلون وكلما خلا مكان من جالس إلا جَاءَهُ رجُلٌ آخر وعمره. ولم يكن هنالك كرسي خاص بأحد ما عدا كرسي صاحب المقهى، أما الوافدون فإنهم يأخذون أماكنهم في الكراسي الخالية، وهكذا، يجلس على الكرسي الرجلُ والصَّبِيُّ والغني والفقير، والشاب والشيخ . مددت ثمن القهوة إلى النادل، وخرجت أطلب المنزل، فقد بدأت أشعر بدوار ويثقل في رأسي، والوقتُ أصبح غُروبا ، والشارع الطويل ممثلى بالحركة، وأنا أخشاها وأخشى أسرارها وغموضها وغموض هذا الزمان وتعقيد أهله …. متى أتحدى الخوف ؟ متى أصبح شجاعًا جريئًا ما دُمْتُ لا أشعر بالذنب ؟ وتذكرتُ أنَّني لم أسأل صاحب المقهى عن سرّ الكراسي المقلوبة، فرجعت إليه وحثثت خَطْوِي إلى أن وصلت وسالت متصنعًا فَضُولاً ذكيا عن السبب فرد ببساطة
عندما يكون المقهى خاليا نقلب الكراسي حتى يتسنى لنا تنظيف القاعة ولا يكون هذا إلا في آخر الليل أو عند الظهيرة
طاطات رأسي وخرجت أردد : هنالك ألف طريقة لقلب الكراسي وهنالك ألف سبب لقلب المقاعد.
رضوان الكوني الكراسي المقلوبة
الشركة التونسية للتوزيع
تونس 1973 ص
35*28
شرح نص الكراسي المقلوبة
الموضوع:
يهتك رضوان الكوني في أقصوصته الكراسي المقلوبة ستر “الجنس الأدبي” في تحد
للمؤسسة النقدية وسدنتها. يدشن انهيار الحدود بدفع النص نحو تفعيل أقصى طاقته
على الجذب والامتصاص واقتحام مراكز الخـــــطاب وفئاته النصية وعباراته
الجارية وأيقوناته ذات “الإيحــــــائية العالية”… إن المغــــامرة في ذاتها ساذجة..
وهي تعادل في سذاجتها هذه سذاجة الســـؤال المطروح ساعة ترك السارد المقهى
عن (سر الكراسي المقلوبة) فالمغامرة خلو من الأحداث الجسام، والتحولات المثيرة
للجدل، إذ كل شيء فيها
حافظ على نسقه العادي: حركة الناس في الشارع الطويل وانفلات الريح العاصفة
في جموح خريفي فجّ لتنقض على الكائنات العضوية منها وغير العضوية قلعا
وفضحا ملقية بها في اضطراب وفوضى يذكران بمشهد الاختلاط الكوني العظيم
ينطبق ما سبق على السارد ذاته، فهو أيضا حـــافظ على ركنه الخاص، منغمسا في
أوجاعه وهمومه وتوتره، يقول: وكنت أنا أجرجر رجلين مثقلتين تحملان جسما
منهوكا مكدودا ضعيف الحركة ورأسا ثقيلا مهموما أعياه التفكير وأتعبه السهاد
فحركته بنوعيها الجسدية والذهنية لا تبشر بأي حادثة أو أزمة ضمن سياق يعيد
إنتاج واقع مأزوم يغلب عليه الذهول ويحكمه الانفصال بين الكيانات المبعثرة
والسارد عندما يشد الانتباه إلى حال كراسي المقهى إنما يوغل في التفاهة ووطأتها،
وتنشأ المفارقة الكبرى بين “مسألة” قلب الكراسي في مقهى وانشغاله بها وبين
رأس “أعياه التفكير”؛ وهو أبعد ما يكون عن هموم الناس، واعتماد التبئير
الخارجي خير دليل على استقالته، فالوصف
وقد وقع تسريده – لم يجاوز ظاهرا تراه العين، حتى فساتين النسوة لم تنجح في
إثارة الســـــــــــــارد لحظة هزتها الريح، بل ظل في ضجر وحياد مقيتين. تكشف
مرحلة العرض عن تفاهة الواقع، وبتغاضي السارد عن شواغل العابرين جيئة
وذهابا يتخذ موقفا مضادا للتنميط السائد نابذا بذلك ما اصطنعته السلطة من أشباه
ونظائر، فاختزلـــــــــــــــها في بعدها المرئي الصريح. وما سؤاله حول حال
الكراسي سوى محاولة منه لاستعادة طاقته على التفكير ومحاورة الأشياء وتلبية
ندائها العميق. فالكرسي دالا أو صورة ذهنية غيره مرجعا واقعيا ملموسا، فهو في
هذا مجرد وسيلة للتبادل والاستعمال، لكنه في الذهن أيقونة مهيبة تحوطها
سحابة من السمات تراكمت عير قرون من النزاع والتنازع حول رقاب الناسيتخيّر
السارد لمسألته هذه موضعا متقدما من مرحلة العرض، لتتصل بعدها حركة السرد
دون أدنى إشارة إليها؛ بيد أنها
رغم بعدها .. تظل تومض في ذهن المتلقي، لاسيما وأنها وحدها المفروزة من بين ركام البشر والأشياء أعمالا وأحوالا. فعين السارد ظلت تتابع أحوال كراسي
المقهى، محصية عدد تلك التي أقعدت/قلبت على قوائمها. وعلى هذا السمت يسحبنا
السارد من عالمنا وفوضاه ليلقي بنا في عالم مواز له، لكنه أجمل وأشد جاذبية. إنه
ركح تدور عليه مسرحية يؤديها ثلة من الصبيان “يمارسون لعبة الحكم”. هذا
الركح متصل بالمكان، فهو ليس إلا سُلّمَ مبنى
كبيرٍ ((في الناحية المواجهة لي في البطحاء)) على حد قوله؛ غير أنه منفصل عن
عالم السارد، فلا الريح العاتية تؤثر فيه ولا رواد المقهى القلائل منتبهون إليه
وحده السارد يشاهد أطوار المسرحية. إنه المتفرج الوحيد. وهو
بانغماسه في اللوحة
ينعتق من نير التفاهة إياها، ويتخلص من الاختلاط ليزج بنفسه في عالم تشكلت
صوره ولاحت ملامحه فقدّم نفسه جاهزا لمن يستجيب لندائه. إنها نافذة تنفتح في
الفضاء المشترك الحميم، لتخترق النمطي المكرر. لا جرم أن ينفلت السارد من
محيطه ببصره ويتابع قصة الكراسي والأطفالُ ينعشونها ويملؤونها معنى. هكذا
يورطنا رضوان الكوني في مسرحية من فصل واحد، مدارها لعبة لها قاعدة
ومعيار وغرض، تنمو تدريجيا نحو أزمة تنعقد على إعراض الصبي
الملك عن تنافس المتنافسين حين أضحى كرسيه الرهانَ، فيلجأ إلى العنف قلبا وانقلابا؛ وتنتهي
المسرحية بسقوط حاد بانقلاب بقية الصبية عليه وقلب كل الكراسي رافضين قواعد
اللعبة وأسلوبها. لقد شحنت مسرحية الأطفال الكرسي وفعَّلت شفراته وسماته، فبعد
أن كان مجرد وسيلة للاستعمال أمسى موضوعا للصراع فغاية في ذاته. هذه
التحولات إنما طالت الكراسي لتجعل منها “فاعلا قصصيا”، وما كان لها أن تصير
كذلك لولا انتهاج المؤلف طريقة في القص تعود الىى مراحله الساذجة. فهو وإن
حرص على الالتزام ببنية” الأقصوصة” وخصائصها الفنية المعروفة، عدل عنها
عبر التضمين، فصرنا أمام قصة داخل قصة ليس من رابط بينهما إلا المشاكلة
غير أن القصة المضمنة ليست حكاية مثلية ولا خرافة من خرافات شهرزاد، إنما
هي مسرحية، جنس أدبي مغاير اقتحمته “الأقصوصة” وطوعته لتصقله عمودا
فقريا تقوم عليه. لقد أماطت المسرحية اللثام عن “سر” السارد والعلة في انشغاله
بالكراسي وأحوالها، فاستوت المسألة الساذجة قضية شائكة لها تعلق بالشأن العام
إذ أن السؤال الحق مداره الصراع حول “السلطة” لا بوصفها طبقة مسيطرة ولا
دولة ذات
أجهزة، بل بوصفها ظاهرة منبثة في كل مفاصل المجتمع، قائمة على مفارقة أصلية
تجمع بين العقلاني / بما أن لها قواعدَ ومعاييرَ وأغراضا .. وبين المزاجي المتجسد
في “النزوات” والأهواء والتقلب غير المحدود
بما أنها لعبة يلهو فيها وبها الأطفال*. لقد أدت الكراسي ضمن “المسرحية” وظيفة
“الإغراء” على أتم وجه، ذلك أنها ألقت بالجميع في الفتنة بوجهيها الجميل والقبيح
… ومكّنت السارد من التطهر من خوفه غير المبرر أن حوّل وجهة السؤال .. أي التفكير
ليسلط عدسته على الذات في عملية استبطان عميقة ومكاشفة مؤلمة. فهو كما قال
عن نفسه: ” والشارع الطويل ممتلئ بالحركة وأنا أخشاها وأخشى أسرارها
وغموضها وغموض هذا الزمان وتعقيد أهله … متى أتحدى الخوف؟ …” هكذا
تبدلت الرؤية وتحولت الوجهة من الخارج السطحي إلى الباطن المعقد، والسارد
بذلك يجيز الصبية أصحاب المسرحية تأليفا وإخراجا وأداء لأنهم حققوا مَهمة هذا
الفن الأولى، أقصد التطهير الأرسطي، ليمنح
القارئ فرصته في إعادة “المشاهدة/القراءة” وفق نظيم رمزي يستدعي رواسبه من
عرف وعنف. فالتضمين ذاته يحث الذهن على تغيير طريقته في التعاطي مع
المقول، ويبث في ثناياه الريبة والشك في قصد المؤلف؛ ذلك أن القارئ ذا الكفاءة
التأويلية يملك من النصوص ما يكفيه ليضبط القصة المحكية وهي تقترف المراوغة
عبر التقنّع والتضليل؛ حسبنا هاهنا التقريب بين الأقصوصة وبين الحكاية المثلية
كي ندرك محمول المسرحية المضمنة الجدي، فتفويض الصبية حتى يمارسوا
الحكم ويحولوه إلى “لعبة” الكراسي فيها هي الرهان والتزلّف هو المصعد كفيل
بشحن النص شحنة سلبية بموجبها يشهد الملفوظ أيا كان موقعه توترا بين ظاهر
وباطن، ظاهر (زائف تافه) يحجب باطنا خطيرا. لقد ععول رضوان الكوني على
نباهة القارئ وتجاربه مع الرسائل المشفرة، ونزّل الأقصوصة .. هذا الجنس اللعوب
في سياق تداولي التبادل فيه يمارس خارج المؤسسة بعيدا عن أضواء السلطة هناك
على هوامش الخطاب وتخومه. إن هيمنة الطبقة المسيطرةعلى مســـــاحات
الخطاب واحتكارها الحق في التأويل جعلت المشتغلين في مجال الكتابة يبحثون عن
وسائل جديدة وفضاءات مهجورة يمارسون فيها حقهم في الالتحام بالأشياء وسؤالها
والإصغاء إلى نبضها البعيد، وما اختيار سلم مبنى لأداء المسرحية الالا حل وجده
الصبية لممارسة براءتهم الماكرة